عرض كتاب "مباحث المفاضلة في العقيدة"

عرض كتاب "مباحث المفاضلة في العقيدة"

إن الله - تعالى - له الحكمة البالغة في خلْقه وحكمه, فسبحانه له أن يخص ما شاء بما شاء، ويَتَفَضَّل على من يشاء بما أراد، فالله - تعالى - لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.

وفي شأن المفاضلة المقررة شرعًا وعقلاً، أعرض لإخواني القراء واحدةً من الرسائل العلمية التي تعرضت لهذا الأمر، وهي ما قدمه الدكتور محمد بن عبدالرحمن أبو يوسف الشظيفي من رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه، وحصل عليها مع مرتبة الشرف الأولى من قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية عام 1411ﻫ، وأصدرتها دار ابن عفان بالقاهرة بالمشاركة مع دار ابن القيم بالسعودية، وهي رسالة مهمة في بابها.

فإنَّ مبحث "المفاضلة بين الأشياء" من المسائل التي تتعلق بعقيدة المسلم، بناء على إثبات أن الله - تعالى - له أن يخص ما شاء من خلقه بما شاء من الخصائص والصفات، بناء على الحكمة والإرادة الإلهية, وفي هذه الرسالة العلمية يقدِّم لنا الباحث عرضًا شاملاً لما يندرج تحت مفهوم المفاضلة ويتحقق حصولها فيه من الأشياء، في منهجيَّةٍ شاملة لكثيرٍ من الفروع والأدلة والردود على المخالفين ممن تكلموا بالجهل والضلال في هذا المبحث المهم من مباحث العقيدة.

فالباحث قد تعرَّض لمناقشة المفاضلة وتحقُّقها في سائر الموجودات بالمعنى العام؛ فتناول المفاضلة المقررة فطريًّا وعقليًّا وشرعيًّا بين الخالق والمخلوق في عرْضٍ ذَكَر فيه الأدلة والبراهين على واحد من المسلَّمات عند العقلاء من بني آدم، لا لإثبات تلك المسلَّمة؛ بل لبيانها وتوضيحها.

ثم بعد أن بيَّن فضل الخالق - جلَّ وعلا - ذكر الفِرَق التي ضلتْ في هذا الباب؛ من الاتِّحادية: أهل وحدة الوجود الذين، قال فيهم ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "اعْلم - هداك الله وأرشدك - أنَّ تصوُّر مذهب هؤلاءٍ كافٍ في بيان فسادِه، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليلٍ آخر؛ وإنما تقع الشبهة لأنَّ أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم؛ لما فيه من الألفاظ المجمَلة والمشتركة، بل وهم أيضًا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم"؛ "مجموع الفتاوى" 2/138، ونقل الباحث عن العلماء ذمّهم وتكفيرهم؛ لشناعة قولهم ومساواتهم بين الخالق والمخلوق، ونقل جملة من أقوالهم التي تُبَيِّن مدى شناعة قولهم وكفرهم، خصوصًا ما نقله عن الشيخ الأكفر ابن عربي الطائي.

ثُمَّ تعرَّض الباحث لذِكْر فرقةٍ أُخرى من الفرَق التي ضلَّتْ في هذا الباب، وهم الجهميَّة: الذين أثبتوا وجود الله - تعالى - كذاتٍ منفصلة، لا على قول الاتحادية الذين قالوا: إن المخلوقات هي عين الخالق، ولم يثبتوا متعددًا، إلا أن الجهمية قالوا: إن الله – تعالى - في كل مكان بذاته، ونفوا أسماءه وصفاته، بناء على دعوى تنْزيه الله - تعالى - عن أن يوصفَ بصفات المخلوقين، فقال فيهم الباحث - حفظه الله -: "فضلُّوا في باب فضل الله على خلقه من جهتين: من جهة الذات؛ فجعلوا ذات المخلوقات أفضل من ذات الله تعالى - سبحانه عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا - ومن جهة الصفات؛ فقد عطلوا الله من صفاته، فشبَّهوه - تعالى وتقدس - بالمعدوم أو بالناقص أو بالجماد" [ص55].

وختم الباحثُ هذا الباب بالفرقة الثالثة، وهي المعتزلة: ممن جعل الخلق أفضل من الخالق، ووصفه بالنقص والعدم؛ فإنهم عطلوا الصفات، وجعلوا الأسماء أعلامًا محضة مجردة عن الدلالات والمعاني.

وبعد ذلك تناوَلَ الباحثُ التفاضُل فيما يتعلَّق بذات الله - تعالى - وصفاته, فالله - سبحانه - أسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها بالغة الغاية من الجمال والكمال، إلا أنَّ الدَّليل الشرعي قد قام على أن أسماء الله - تعالى - تتفاضل من وُجُوه عدة؛ كأن تدل مع الاقتران بغَيْرها على ما لا تدل عليه عند الانفراد، أو تدل على صفات عدة لا تختص بصفة مُعينة، إلى غير ذلك من الأَوْجُه التي تراها في هذا الكتاب، والمباحث الأخرى نحو مبحث تفاضل الصفة الواحدة، التي مثَّل لها الباحث بصفات سمعيَّة ذاتية وخبريَّة؛ كالكلام ودلالة القرآن على ذلك، واليد مما دلَّ عليه الدليل.

وبَيَّن الباحث الأقوال في مسألة تفاضل كلام الله تعالى، ثم تعرض للرد على المبتدعة الذين ضلوا في هذه المسألة، مُوَضِّحًا سبب ضلالهم، مع الإشارة إلى مَن منع وقوع التفاضل، معللاً ذلك بقوله: "فمأخذ هؤلاء في منعهم التفاضل في كلام الله وصفاته، هو توهُّم أن القول بالتفاضل يشعر بنقص المفضول، ولا تجوز نسبة النقص لصفات الله تعالى"، كما تراه في ذلك الكتاب.

ثم انتقل الباحث بعد ذلك للكلام على التفاضل في الخَلق، متبعًا في ذلك البداية بالأعلى، ثم الانتقال لمن دونه؛ فبدأ بالكلام على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ثم انتقل للكلام على المؤمنين، في جُملةٍ من المباحث التي تفرع عنه كثير من المناقشات الفرعية.

فتعرض للتفرقة بين النبي والرسول بعد تعريف كل منهما، ونقل أقوال العلماء في ذلك، ثم ذكر جملة من وجوه التفاضل بين الأنبياء؛ مثل: التفاضل بالآيات والمعجزات والبينات، والتفاضل بكثرة الأتْباع، إلى آخر ما ذكر من ذلك بما تقف عليه في ذلك المبحث، وذكر في الذي يليه مسائل أخرى في التفاضل بين النبي والرسول، تطرق في غضونها إلى مسألة أولي العزم من الرسل، والخلاف في تعيينهم ومراتبهم فيما بينهم، وذكر طرفًا من خصائصهم، ثم وقوع التفاضل بين أحوال النبي الفرد، كما أشار إلى ذلك في موضعه.

ومن المسائل التي تحتاج للتوضيح والبيان؛ دفعًا للتلبيس والإيهام: مسألة التفاضل بين الأنبياء وجواز ذلك وعدمه، مع بيان الأدلة الواردة في هذه المسألة وتوجيه تلك الأدلة، فالباحث - حفظه الله تعالى - قد تعرَّض لذلك، وبيَّن أقوال العلماء، وأوضح أوجُه الصواب في هذه المسألة التي اختلفتْ فيها الآراء.

ومما لا شك فيه فضلُ أنبياء الله - تعالى - ورسله على سائر خلْقه، ولكن لما ظهرت الطوائف المخالفة التي بنتْ أقوالَها على الضلال والجهل، احتاج الأمرُ لنصب الأدلة على أن الأنبياء أفضل البشر، وأما مَن دونهم فهم دونهم في المرتبة والفضل؛ ولذلك قام الباحث بعقد مبحث للرد على الطوائف الضالة الذين قالوا مقالات مخالفة لمَا تقرَّر من أن الأنبياء أفضل البشر، فذكر فيه أقوالاً شاذة للجبائي المعتزلي وغلاة الصُّوفية، وكيف أن هذا القول فتح باب الزندقة، وردَّ فيه على الحكيم الترمذي الصوفي فيما ذهب إليه من باطلٍ وضلال وإفك في فكرة "خاتم الأولياء"، ثم ذكر مذاهب الطائفة الخبيثة - طائفة الروافض - الذين لهم من الأقوال ما تراه وتقع على رده في هذا المبحث.

ولما كان من المقرر عند جماهير المسلمين أن أفضل البشر بعد الأنبياء صحابةُ رسولنا الكرام - رضي الله عنهم أجمعين - فنرى الباحث - سدَّده الله تعالى ووفقه - قد عقد فصلاً ناقَشَ فيه فضل الصحابة، والأدلة على ذلك، وبيان عدالتهم، والواجب تجاههم، بالإضافة إلى الواجب على المؤمنين فيما وقع بين الصحابة من الخلافات، وكذلك بيَّن الباحث أن الصحابة رجالاً ونساءً متفاضلون في المراتب، وعدَّ في ذلك مباحث مُتنوعة، وذكر أقوال أهل العلم في ذلك وأوجه التفاضل؛ نحو السبق بالإسلام والهجرة، وغير ذلك من المناقب، التي أشار إليها الباحثُ ودعمها بالأدلة الشرعيَّة، ورد على دعوى أنه قد يكون مِنْ غير الصحابة مَنْ يفضل الصحابة، وبَيَّن مخالفة هذا القول لِجُمهور المسلمين، عاضدًا ذلك بالبراهين والحجج.

ثم انتقل بعد ذلك - على عادته في هذا الكتاب؛ بإرداف غالب المباحث بالتعريج على الأقوال الشاذة الباطلة - إلى التعرُّض لعدد من الطوائف:

فالأولى: مَن لا يرون التفاضل بين الصحابة من أصله.

والثانية: مَن يفضل نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - على سائر الصحابة.

والثالثة: مَن يفضل أهل الصفة.

والرابعة: مَن فضّل من مات في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم.

والخامسة: مَن يفضل عمر - رضي الله عنه - مطلقًا.

والسادسة: مَن فضّل عليًّا - رضي الله عنه - على ما في ذلك مِن الغُلُوِّ والتفريط الشيعي الرافضي المعتزلي.

ثم بيَّن الباحثُ - وفقه الله تعالى - الحق في ذلك كله مما عليه أهل السنة والجماعة.

ثم ختم الباحث كتابه الماتع بفصل جعله على قسمين:

القسم الأول:

في المفاضلة بين سائر المؤمنين بالأدلة، وأوجه المفاضلة، والضابط الشرعي للمفاضلة، الذي قال فيه: "فالعبودية هي المقياس الشرعي الذي تقوم عليه المفاضلة بين الخلق؛ بل إن حتى ما يكون من التفاضل بين الأزمنة والأمكنة إنما هو لحظ العبودية المتعلق بها" [ص315]، وكذلك فضل الأمة الإسلامية على غيرها من الأمم، وفضل القرون الأولى على التي تليها؛ لما ورد في ذلك من الأدلة الشرعية الصحيحة.

والقسم الثاني:

جَعَله جامعًا لمسائلَ متفرقةٍ في المفاضلة؛ مثل: إمامة الفاضل والمفضول، والتفاضل بين الملائكة والبشر، والكلام على تفاضُل العبادات؛ من جهة العبادة في ذاتها، ومن جهة الفاعل للعبادة، ثم ذكر تفاضُل الأزمنة والأمكنة بما تدل عليه الحجج الشرعيَّة، وأتت به الأدلة، إلى أن تناوَلَ الكلام على أحوال الناس، والتفاضُل في الآخرة والبرزخ والمحشر والحساب، حتى تفاضل أهل النار - أعاذني الله وإياكم منها - ثم ذيّل ذلك بجملةٍ من القواعد المتعلقة بالمفاضلة ختم بها بحثه ورسالته العلمية.